يُعَّدُ ديكارت من دعائم عصر النهضة الأوروبية، فالغربيون أعجبوا بهذا للسبب المتقدم، ولسبب آخر هو: أن الغزالي إمام كبير من أئمة الإسلام وشك في دينه الإسلام، وسمى الوحي بالعلم التقليدي، وهذا هو الذي يريدونه، فكل طالب ابتعث إِلَى أوروبا، وخاصة في جامعة الصوربون في فرنسا وهي مهتمة كثيراً بـالغزالي وعلومه.
فإذا جَاءَ أحد قالوا: تعال ابدأ فقدوتك الإمام الغزالي، ابدأ فشك في كل شيء ثُمَّ في القُرْآن والسنة ثُمَّ في نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعياذ بالله، وبعد ذلك انظر وابحث واجتهد حتى تصل إِلَى اليقين، ولهذا نجد كثيراً من المتصوفين الكبار، تخرجوا من الصربون، وما يزالون يتخرجون وعلى منهج الغزالي يسيرون، فهم أخذوا العبرة الخطأ والضلال.

ونحن لم نأخذ العبرة وهي أن الإِنسَان يبدأ من حيث انتهى إليه الغزالي، نبدأ بالكتاب والسنة، لماذا نجرب ونجرب؟!
الغزالي رجل غير تقليدي هذا صحيح، لكنه جعل الدين من التقليد، لكنَّ كونه تنقل في هذه الأربعة دليل عَلَى أنه غير تقليدي، ولو كَانَ تقليدياً لتمسك بواحدة من هذه المراحل التي مر عليها وبقي عليها، ولربما كَانَ بقي عَلَى الأصل الإيمان، وهو الدين والإسلام، لكنه شك ثُمَّ شك في أول الأمر، فهو ولد عَلَى الفطرة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد عَلَى الفطرة} وفي آخر الأمر يموت والفطرة عَلَى صدره وهي هذا الدين، فلف لفةً طويلة حتى رجع، لماذا لا يبدأ الطريق من أوله؟! فالدعاة والمربون والموجهون والعلماء، الذين يأتون بالمناهج الشرقية أو الغربية المنحرفة، أو البدع الضالة من صوفية أو علم كلام أو فلسفات أو نظريات، لماذا لا يأخذون العبرة ويبدأون جميعاً من حيث انتهى أبو حامد، وتكون البداية بأول منزل وهو كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه العبرة التي يجب أن نأخذها جميعاً.

يقول أبو حامد: فإن قلت فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه، فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف، فمن قائل: إنه بدعة حرام وأن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام -فنفهم أن هذا إفراط وإسراف- ومن قائلٍ إنه فرض إما عَلَى الكفاية، وإما عَلَى الأعيان، وإنه أفضل الأعمال، وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله، فهناك إفراط عند من قَالَ: حرام وعند من قَالَ: واجب، وإلى التحريم ذهب الشَّافِعِيّ ومالك وأَحْمد بن حَنْبَل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف سُبْحانَ اللَّه! جعل هَؤُلاءِ الأئمة مفرطين ومنهم الإمام الشَّافِعِيّ.
والغزالي شافعي وهو من أكبر أئمة الشافعية ويكتب دائماً الشافعي في اسمه، وله كتاب المنخول في أصول الفقه عَلَى طريقة الشافعية، وكتبه في مذهب الشَّافِعِيّ معروفة.
فكيف تجعل الذي تقلده وتنتمي وتنتسب إليه في مقابل طرف غلو وتجعل علماء الكلام المذمومين، المرذولين في طرف غلو آخر، فكيف هذا التناقض؟ وسبق أن قلنا إن من أسباب هذا التناقض: أن الرجل مر بعدة أطوار فأصبحت عقليته مضطربة مختلطة، مع قوة الحافظة والذكاء، وغزارة الفهم، يفهم الكل، ومع فهم الكل بلا منهج ولا معيار يقيس ما حفظ وما علم وما فهم صار يكتب كلاماً وينقضه فيما بعده، ثُمَّ نقل عن هَؤُلاءِ، ألفاظاً كثيرة منها:
كلمة الإمام الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ التي قالها: (لأن يلقى العبد الله تَعَالَى بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام).
وكلمة مالك لما قَالَ: (لا تقبل شهادة أهل الأهواء)، وفسرها ابن خويز منداد فقَالَ: (إن مالكاً يعني بأهل الأهواء :أهل الكلام أشعرياً كَانَ أو غير أشعري)، فإن علماء الكلام هم أهل الأهواء وكلام سفيان وكلام الإمام أَحْمَد وجميع أئمة الحديث من السلف والنقول عنهم معلومة، قَالَ: [وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، أي: عَلَى ذم علم الكلام، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، وَقَالُوا: ما سكت عنه الصحابه -مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح بترتيب الألفاظ- إلا لما يتولد منه من الشر] وهذا حق لأن أي علم من العلوم لو كَانَ خيراً، فالصحابة أسبق النَّاس إليه، ولن يأتي بعدهم من يسبقهم إِلَى خير أبداً.

يقول: [وكذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هلك المتنطعون} أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء] .
[واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كَانَ من الدين لكان أهم ما يأمر به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعلم طريقه ويثني عَلَى أربابه] لأنه إذا كَانَ لا يمكن أن نصل إِلَى اليقين، إلا بعلم الكلام، لكان أول علم يعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمة هو هذا العلم لأنه جَاءَ ليعلمهم اليقين، ويذهب عنهم الشك والضلال: ((وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)) [البقرة:198] فجاء يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، ويبعدنا عن طريق الضلال، فلو كَانَ الذي يزيل وينقذ من الضلال هو علم الكلام؛ لكان هو أول علم يعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة هو علم الكلام، ونقول أيضاً للغزالي: لو كَانَ المنقذ من الضلال هو التصوف لكان أول علم يعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمة لينقذهم به من الضلال، ثُمَّ ذكر بقية استدلالهم.
وذكر استدلال الفريق الآخر، حيث يقولون: فيه دفاع عن الدين، ومناظرة الملحدين، وقمع للشبهات، هكذا ذكر ذلك وهي موجودة في الجزء الأول من الإحياء كما قلنا قواعد العقائد.
قَالَ: [فإن قلت: فما المختار عندك؟] بعد أن ذكر أن السلف جميعاً مجمعون عَلَى شيء، وأن أهل الكلام خالفوهم؛ فأجاب بالتفصيل فقَالَ: فيه منفعة، وفيه مضرة؛ لأن السلف ذموه بإطلاق قالوا: لا نفع فيه ولا خير فيه وذكر أنهم مجمعون عَلَى ذلك، فلماذا تخالف إجماع السلف؟
فهو كما يقول: تركت التقليد وأخذت انتهج سبيل النظر حتى أصل إِلَى اليقين؛ كأنه يعتذر من اتباع السلف؛ لأنه من باب التقليد، وترك كلام السلف وإجماعهم، ويقول: فيه منفعة، وفيه مضرة، فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام، قَالَ: فأما مضرته فإثارة الشبهات فهذا ضرر، وهذا يكفي وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم وذلك مما يحصل بالابتداء، وأي إنسان يتعمق في الجدل وعلم الكلام فإنه تحصل عنده الزعزعة، ورجوعها في الدليل مشكوك فيه..... إلخ، وهذا ينطبق عليه رَحِمَهُ اللَّهُ.

أهذا لديه اتباع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللسلف الصالح؟ فلو أن الغزالي قَالَ: نَحْنُ مع هَؤُلاءِ السلف، لأراح نفسه واتخذ موقفاً واضحاً، لكنه قَالَ: فيه تفصيل وقد يكون واجباً، ثُمَّ يقول كلاماً يوجهه إِلَى كل باحث، وإلى كل مطلع، وإلى كل قارئ من أي اتجاه.
قَالَ: [وهذا] أي: إن كلامي هذا عندما قلت: إنه ضار [إذا سمعته من محدث، أو حشوي] والحشوية: هم الذين ليس عندهم حشو الكلام وهم ينبزون علماء الحديث بهذا [ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا] أي: هَؤُلاءِ علماء حديث ما عندهم إلا قال الله وقال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن فلان عن فلان، فلان ضعيف، وفلان ثقة، ما عندهم شيء،..فلذلك لا تستغرب أنه يَذُّم علم الكلام، ويذم علم الفلسفة.
قَالَ: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه، إِلَى منتهى درجة المتكلمين] كَانَ يقول: فَخُذْ عني فأنا متأكد، وقد خبرت كل هذا، فقد بلغت إِلَى منتهى درجة المتكلمين، إذاً: وصل إِلَى منتهى درجة المتكلمين [وجاوز ذلك إِلَى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام] يقول: أنا كذلك الآن جاوزت إِلَى التعمق في علوم أخرى، في الباطنية، وفي الفلسفة، وفي التصوف، فتعمق حتى قال كما في المنقذ من الضلال: "وجدت علم الكلام علماً وافياً بمقصوده غير وافٍ بمقصودي" أي أن هذا العلم في ذاته عَلَى قدر أهله يكفي؛ لكنه بالنسبة لرغبتي غير كافٍ لها لأنه يقول: أنا أريد اليقين وأبحث عنه، لكن مقصود هذا العلم الجدال والنزاع وإثارة القضايا والإستنباطات؛ لأنه علم كامل، يغرق فيه الإِنسَان، فوجدته كافياً بمقصوده غيركافٍ بمقصودي، ثُمَّ يقول: "وجاوز ذلك إِلَى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام: وتحقق أن الطريق إِلَى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود " يقول: أنا تحققت أن الطريق ومعرفة الحق عن طريق علم الكلام مسدودة.
ثُمَّ يقول أخيراً: [ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن عَلَى الندور] فبعض النَّاس يفك الحجاب الذي كتبه المشعوذ ويجد أن آية الكرسي وقل هو الله أحد -اسم الله الأعظم فيه- فيقول الْحَمْدُ لِلَّهِ وتطمئن نفسه، ولا ينظر إِلَى تلك الطلاسم من فوق ومن تحت وجميع الأطراف، وهكذا كل العلوم لا بد أن تأتي بشيء من الحق لتعمي عَلَى الناس، والبريء منهم والساذج أو المغفل عندما يرى هذا الشيء من الحق ينسى تلك الطلاسم وتلك الحواشي، فهو مثل علم النجوم، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الجني يتلقى الكلمة فيلقيها إِلَى وليه قبل أن يدركه الشهاب، فيحفظها الولي من الإنس، فيضع معها تسعة وتسعين كذبة، والنَّاس دائماً يتعلقون بذكر الواحدة، وينسون التسعة والتسعين فهذه طريقة الشيطان، وهذا تلبيسه، فعلم الكلام في هذا مثل خبر الكاهن، صدقه واحدة ولكن معها تسعة وتسعون كذبه، هذه هي غاية ما في علم الكلام.